رغم أن معرفتي به تتجاوز  عشر سنوات بقليل غير أنَّ عندي بعض ما أكتبه عنه،  وإن كان غيري أولى وأعرف به مني، بيد أن الحادث الأليم الذي  أحلَّ به –  الأحد الماضي 15 سبتمبر بعد عودته من بروكسل إلى فرنسا حيث يقيم  – وأدخلنا جميعاً في صدمة كبيرة نسأل الله تعالى أن يجبر مصابنا وأن يتم شفاه ويربط على قلب أهله ومحبيه.

أردت هنا أن أسطر بعض الكلمات اعترافاً بفضله وتعريفاً ببعض القيم التي يجسدها، والتى هى مُنتَج  المدرسة الإسلامية في التربية، ساهم فيها كثير من العلماء الأجلاء في مقدمتهم الشيخ القاضي فيصل مولوي – رحمه الله  تعالى – صاحب الأثر الكبير في شخصية أستاذنا عبد الله بن منصور رئيس مجلس مسلمي أوروبا.

قائد رباني

لعل من أبرز الصفات فيه التي تلمحها بقوة في شخصه، ربانيته وحسن علاقته بالله تبارك وتعالى، وقد صحبناه في الأسفار، فلم يترك أوراده  وقيام الليل رغم مشقة السفر وطول فترات الاجتماعات.

ولعل تجلي الجانب الإيماني هو أهم ما ينقصنا  في عالم المادة  اليوم، وهو ألزم بالدعاة وقادة المؤسسات.

وكنت أتساءل عن سر التألق الظاهر في شخصيته في بداية معرفتي به فكان الجواب هو محافظته على قراءة القرآن وقيام الليل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا عجب فقد فُرض قيام الليل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، ونزلت سورة المزمل ثم المدثر.

ومن لم يكن له رصيد من القيام بالليل لن يقوى  على القيام بالدعوة بالنهار كما لاحظ هذا المعنى والربط بين القيامين شيخنا د. أحمد الريسوني.

إذ أنَّ مخالطة الناس لا يصبر عليها إلا من له غاية عظيمة وله  قوة تسند ظهره، فالتاجر الذكي المتميز يبحث عن كل فرصة للكسب، ورأس ماله هو: جمهور المستهلكين، وصبره مرهون بهمته وهدفه في الربح، كذلك حال الداعية فكلما وضحت الغاية كان أطول نفساً وأصبر على الناس وأحنى عليهم، والركن الشديد الذي يأوي إليه هو الله جل جلاله صاحب العون والمدد .

وهكذا هو أستاذنا عبد الله بن منصور، – ولا نزكي على الله أحداً.

من توجيهاته لنا في لقاءات المكتب التنفيذي لمجلس مسلمي أوروبا:

لا نلتقي إلا ونحن على وضوء ولا نبدأ كلامنا إلا بسم الله.

ومن يستمع له يجد لكلامه روحاً، ذلك لأن الألسنة مغارف القلوب كما يقول العارفون، و”كل كلام يخرج وعليه الكسوة التي منه خرج”،  كما يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى.

وقد وهبه الله تعالى قدرات عالية فهو خطيب بالغ التأثير بصوته وروحه وقوة اتصاله بالجمهور وثقافته الموسوعية، وصدقه الذي تلمسه في كل حديث خاص أو عام.

صاحب القلب السليم

لا يعرف قلبه حسداً ولا غلاَّ لأحد من الناس على الصعيد الفردي، كما يتسع للمخالفين في الرأى والفكر والمعتقد.

في شهر يوليو الماضي دار بيننا حوار، وقد اتصلت به بعدها معاتباً في أمر، فزارنا في مخيم القرآن الكريم بعد يومين وما إن لقيني حتى فاجأني بتقبيل رأسي بحركة ظريفة مباغتة، وقد امتلأت منه خجلاً.

وهكذا هو خافض الجناح لإخوانه لا يتحمل أن يغضب منه أحد بحق أو بغير حق إلا قام إليه مقبلاً رأسه.

وما هذا إلا لسلامة صدره وطيب خلقه وخوفه من الله تعالى.

وأحسبه ممن يصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: “كل مخموم القلب صدوق اللسان”، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: “هو النقي، التقي، لا إثم عليه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد”. رواه ابن اجه، والبيهقي في “شعب الإيمان”.

وتحققه بمعنى الأخوة ورعايته لإخوانه فهى عجيبة، يؤنس جليسه فلا يمل الجلوس معه مهما طال رغم انشغاله، ويقوم على خدمته بنفسه بتواضع دون تكلف، ومن رافقه في سفر يعرف ذلك جيداً.

همة عالية وأمل فسيح

يعيب البعض على أ. عبد الله طموحه الواسع وأمله الفسيح وتفاؤله الكبير، فالرجل يتجاوز الزمان، يتجاوز اللحظة الراهنة إلى المستقبل الواعد للحق وأهله، وليس في ذلك ما يُعاب، بل إنها القراءة الواعية لسنن الله تعالى في المجتمعات وما شهدت به تقلب الأزمان والليالي والأيام.

وتأملوا بوارق الأمل التي أشرقت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة النبوبة وفي شدة غزوة الأحزاب وغيرها من الشدائد.

ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أمماً قامت وأخرى انهارت وبادت، ومدناً شُيدت وغيرها خُربت.

لقد جمع  الرسول صلى الله عليه وسلم  مجموعة من قبائل العرب المتناحرة وصنع منهم أمة وحضارة سطع نجمها وأشرقت شمسها وعم نورها الدنيا، فغيرت مجرى تاريخ البشر في سنوات قليلة.

فكيف لا يمتليء المسلم بالأمل العظيم في أن الحق هو الأصيل وهو الباقي؟!

وهكذا يجب أن نتعلم من أستاذنا الفاضل علو الهمة والأمل في بلوغ الغاية مهما كانت المشاق.

كما يقول أبو الطيب المتنبي:

تُحقر عندي همتي كل مطلب  *** ويقصر في عيني المدى المتطاول

رجل يعيش بكليته للإسلام والمسلمين

إنه يسير على خطى الدعاة الكبار الذي يعيشون ليلهم ونهارهم وسرهم وجهرهم للإسلام ودعوته ورسالته، وبذْل الجهود المتواصلة في سبيل دعوة الإسلام وبيان رسالته وتعاليمه الهادية للبشرية، والمحافظة على هوية المسلمين في أوروبا، وقد أكرمه الله تعالى عبر أكثر من أربعة عقود بالمساهمة في، تأسيس معظم المؤسسات الإسلامية في أوروبا التي أصبحت مليء السمع والبصر.

وهو رجل المواطنة الحقيقية التي تجمع بين الانتماء للإسلام والانتماء للوطن الفرنسي والأوروبي، والانتماء للأمة الإسلامية.

فرغم التضييق عليه وعلى كثير من قادة مسلمي فرنسا غير أن الخيار الاستراتيجي هو الحرص على سلامة الأوطان التي نعيش فيها، وكان آخر كلامه معنا في اجتماعنا منذ ثلاثة أيام: ليس لنا خصومات مع أي حكومة ولا دولة ولا أشخاص، نحن مؤسسة مدنية.

والقصد هنا أن نبحث عن مصالح مسلمي أوروبا والحفاظ على هويتهم الإسلامية، ومصالح المجتمعات الأوروبية والعالم، ونمد أيدينا للجميع ونرحب بالحوار مع الجميع ونحترم خصوصيات المجتمعات، وفي الوقت نفسه نحافظ على مبادئنا وقيمنا المستمدة من تعاليم الإسلام العظيم.

وبعد، فهذه بعض جوانب من شخصية أ. عبد الله بن منصور.

وقد أوجزت الحديث عنها خشية الإطالة.

وفي ختام كلمتي وبعد العملية الجراحية التي أجريت له وأفضت إلى بتر يده اليسرى إلى المرفق، نقول:

كأني بك في الأيام القادمة – بحول الله وقوته – تجول وتصول كعادتك، محاضراً تشير باليمنى فإذا بها جمعت الأيادي البيضاء، وكما تجسد فيك الأمل قبل الحادث ستقدم درساً للأجيال في سوابق الهمم، كأنك الجبال الشم الراوسي حتى يرى الشباب فيك عبد الله بن أم مكتوم رضى الله عنه، الذي حمل لواء الفخار  وصنع أمجاد الأمة في القادسية وكان أعمى، ويروا فيك عبد الله بن عباس رضى الله عنهما حينما فقد بصره في آخر عمره فقال:

إن يأخذ الله من عيني نورهما ***  ففي لساني وقلبي منهما نور

عقلي ذكي غير ذي دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مسلول

ويروا فيك عمرو بن الجموح في غزوة  أحد وقد عذره الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أعرج فقال: إني أحب أطأ بعرجتي هذه في الجنة.

وحق لك أن تفخر بأن يدك قد جعلها الله تعالى لك ذخراً وفخراً، فقد اتخذها الله لك وأنت في ميدان العمل للإسلام والإنسانية، وهى سابقتك إلى رضوان الله تعالى حتى تلحق بها كلك بعد عمر مديد وصحة موفورة في طاعة الله تعالى.

قال عروة بن الزبير لما قطعت رجله، الحمد لله: اللهم إن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ فقد عافيتَ، أشهد الله أنني لم أمشي بك إلى حرام.

وكان طلحة بن عبيد يفتخر بيده التي شُلت في غزة أحد وهو يدفع بها عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: هذه اليد التي وَقَت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالحمد لله الذي عافاك وأبقى يمينك تسلم بها من كل سوء، وتُسلم بها إلى الناس الخير كله في قابل الأيام أضعافاً مضاعفة.

والحمد لله أولاً وآخراً

طه سليمان عامر

رئيس قسم الدعوة والتعريف بالإسلام بمجلس مسلمي أوروبا 

رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا