“نسأل الله أن يوفقنا للخير ويحفظ لنا ديننا ويهدينا إلى سبيل الرشاد.”
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
هذه “الوثيقة الثقافية” هي بمثابة النصّ المعياري والمرجعي الذي يُحدّد القيم والمبادئ ويرسُم التوجّهات العامة في مجال التكوين، الذي يتولّى مسؤولية الإشراف على وضع برامجه التفصيليّة وتنفيذها وتنزيلها المؤسسات الأعضاء في “مجلس مسلمي أوروبا”.
وفي سياق أعمّ، فإن هذه “الوثيقة الثقافية” لا تنفصل عن وثائق أخرى مرجعيّة لـ”مجلس مسلمي أوروبا” وعلى رأسها “ميثاق المسلمين في أوروبا” و”مجلس مسلمي أوروبا: مبادئ ومواقف” وكذلك سلسلة المنظومات المتعلقّة بمجالات: الفكر والثقافة والدعوة والإدارة، فهي مُكمّلةٌ لها منسجمةٌ مع مضامينها. كما أنّ هذه “الوثيقة الثقافية” تنطلق من تجربة تراكميّة بدأتها الأجيال المؤسّسة وتطوّرت مع الأجيال التي جاءت بعدها لتلتصق أكثر بواقعها وتضع مساحة أكبر لخصوصياته.
إن حرصنا على تأطير عملية التكوين والارتقاء بالتديّن ينبع من قناعتنا بأن طريق الاعتدال والوسطيّة وتحقيق النّفع للآخر يحتاج – وسط اختلاط المفاهيم وتشعّبها – إلى رسم معالمه وتبيان خصائصه، وأن المسلم الصالح مكسب لذاته ومحيطه، عملاً وسلوكاً وإضافةً وإثراءً. فالصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة هو نتائج تأسيس نظري وتطبيق عملي متناغم مع التأسيس النّظري.
نسأل الله أن يوفّقنا إلى ما فيه الخير والصلاح وأن يحفظ علينا ديننا ويهدينا سُبل الرشاد.
الأهداف العامة
تؤسّس هذه “الوثيقة الثقافية” لجانب مهمّ في عمل “مجلس مسلمي أوروبا” ومؤسساته ألا وهو التكوين. ذلك أن تعهّد المسلم الأوروبي بالتكوين بما يرتقي به في مراتب التديّن واكتساب السلوكيات والأخلاق الحميدة وبناء علاقات إنسانية، أمرٌ حيوي في حياة الفرد والمجتمع.
وباعتبار أن السلوكيات مرتبطة بالمفاهيم والتصورات، فإن هذه الوثيقة الثقافية تهدف إلى تطوير المفاهيم والمصطلحات التي من شأنها أن ترسّخ الفهم الوسطيّ المعتدل للإسلام، وتسهم في تجديد فهم وبناء التديّن وأدواره في سياق الحضارة الأوروبية (الجغرافيا)، والتجربة الإسلامية الثريّة (التاريخ)، وما ينفتح عليه العقل البشريّ من مكاسب (المستقبل).
كما تهدف هذه “الوثيقة الثقافية” إلى دعم الحضور المسلم في أوروبا ومساعدته على التفاعل الإيجابي مع مجتمعه بما يعزّز التعايش السّلمي داخله مع الحفاظ على الهويّة الإسلامية والشخصية المسلمة المتوازنة شعارها في ذلك “ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ممَّنْ دَعَا إلَى الله وَعَملَ صَالحًا وَقَالَ إنَّني منَ المُسْلمينَ” – سورة فصّلت، الآية 33.
المنظومة القيميّة
ترتكز “الوثيقة الثقافية” على أسس قيميّة بمثابة المثل الإنسانية العليا التي يجب أن تكون موجّهة في أيّ بناء تكويني أو ثقافي عام. وهذه الأسس القيميّة هي:
أولا: قيمٌ تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه، وتتجلّى هذه القيم في ديننا الإسلامي في “التوحيد” الذي به صلاح القلوب والأبدان، وصلاح الأقوال والأعمال، وصلاح الدنيا والآخرة. فالقلب إذا صلُح بالمعرفة والتوحيد والإيمان صلُح الجسد كله بالطاعة والتسليم لرب العالمين، ثم صلُح حال العبد ظاهراً وباطناً، فرضي عنه ربّه، وأسعده في دنياه و أخراه. وأهم تجليّات قيمة التوحيد هي تحقيق العبادة بمفهومها الواسع الذي يشمل ظاهر الإنسان وباطنه، كما يشمل فعل الطاعات وترك المنكرات وأعمال القلب والعقل من نظر وتدبّر وما ينعكس على سلوك الإنسان ليكون عنصرا صالحاً ومفيداً في محيطه. وهذا هو جوهر رسالة الأنبياء “فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ” – الأعراف، الآية 59، التي ركزت على الترابط والتلازم بين التوحيد والعبادة.
ثانيا: قيمٌ تتعلق بعلاقة الانسان مع ذاته، وهي اللّبنة الأولى والدّافع الأساس لبناء علاقات اجتماعية راقية. ومن أهمّ هذه القيم محاسبة النفس وترويضها على فعل الخير. وأرقى أنواعها الاستحضار الدّائم للعروة الوثقى بين الإنسان وخالقه المبدع للكون. ومثل هذا الإيمان العميق يمنح الذات البشرية أقداراً من الحريّة في التصوّرات، ويجعلها تتُوق إلى الكمال والجمال من خلال أفعال الخير والتعاون والتضامن والإبداع والحرية والمساواة ومقاومة الظلم وتحرير الإنسان من كل الآفات.
ثالثا: قيم تساعد الفرد على حسن تعامله وتفاعله مع محيطه وبناء علاقات إنسانية حضارية، ومن أهمّها القيم الأخلاقية الاجتماعية التي تبدأ من المحضن الأسري إلى المحيط القريب (الجوار) إلى العلاقات الاجتماعية الضيّقة (صداقة / عمل) إلى العلاقات الاجتماعية المفتوحة. وتعتبر الأخلاق صفات ضرورية يَختلّ بفَقدِها نظام الحياة لدى الإنسان، بما يؤكد محوريّة الأخلاق في البناء الثقافي وفي الحفاظ على ديمومة هذه العلاقات واستمراريتها في ظل الاحترام المتبادل والعدل والتعاون مع الغير على الخير.
المبادئ العامة
كما ترتكز “الوثيقة الثقافية” على مبادئ عامة تنقسم بدورها إلى جزء نظري وآخر عملي.
← المبادئ النظرية العامة
تؤكّد “الوثيقة الثقافية” على المفاهيم المرجعيّة العامّة انطلاقاً من القواسم المشتركة بين الأسس الثقافية الإسلامية وما تحدده من مبادئ في التصور والعمل وبين الأسس الثقافية الأوروبية خاصة ما يتعلق بحرية المعتقد والتنوع الديني في المجتمعات الأوروبيّة المكفولة بالدساتير والقوانين والمواثيق ذات الصلة:
⟸ المساواة في الإنسانية
إنّ الإنسانية واحدة من حيث المنشأ، واختلافها وتنوّعها هو من أجل تعارفها. ويقتضي ذلك تساوي جميع البشر في الحقوق الإنسانية، مع التأكيد على مبدأ جوهري وهو المساواة بين الرجل والمرأة في الإنسانية، وبالتالي في الأهليّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، إذ المرأة بحكم أهليتها التكليفيّة معنيّة مثل الرجل بالقيام بمسؤولياتها. والتكليف مبدأ أصيل “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” – سورة الحجرات، الآية
⟸ الحرية
تُعتبر الحريّة عاملاً مهمًّا في كلّ الحضارات والمجتمعات، وهي رديفة لمعنى الحياة. وبقدر التأكيد على محوريّة ضمان حريّة الإنسان الجوهريّة مثل حريّة المُعتقد والانتماء والتعبير وغيرها من الحريّات الحيويّة، بقدر التأكيد على ضرورة اقتران هذه الحريّة بروح المسؤولية. إذ لا معنى لحريّة بدون مسؤولية تضبط العلاقة المتوازنة بين الفرد والمجتمع وتُشيع أجواء التّعايش السّلمي المشترك.
⟸ المواطنة
وهي تعني المساواة في الحقوق والواجبات وفي المصير المشترك. ولا تكتمل المواطنة سوى بترابط هذه العناصر الثلاثة. وباعتبار أن مسلمي أوروبا هم أحد مكوّنات المجتمعات الأوروبية فإن العلاقة بينهم وبين مجتمعاتهم تقوم على أساس المواطنة ومقتضياتها.
← المبادئ العملية العامة
⟸ احترام الكرامة الإنسانية
إنّ الانسان مهما كان جنسه ولونه وعرقه ودينه وسنّه هو كائن محتَرم له كرامته. فقد تحقّق التكريم بالخلق السويّ، والمكانة الرائدة في الكون منذ خلق آدم عليه السلام “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” – سورة الإسراء، الآية 70، وقد جاء هذا التكريم مطلقا وغير مُقيّد بجنس أو بعرق أو بدين. وبالتالي، فإن احترام كرامة الانسان البشرية من الأولويات لتحقيق التعايش المنشود. ويتجلى هذا المعنى في ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية في السلوك والتعامل مع الجميع، مثل: العدل، والحرية والكرامة، وحقوق الإنسان، وخدمة المجتمع والناس أجمعين والحرص على نفعهم “أحبّ الناس إلى الله أنفعهم للناس” (الحديث النبوي – أخرجه الطبراني). ولبلوغ هذه الأهداف النبيلة، يحتاج الإنسان إلى تزكية نفسه والارتقاء بها بتطهيرها وتنقيتها من الصفات المذمومة والقبيحة، والسّعي إلى تكميلها وتجميلها بالصفات الحسنة والأخلاق الحميدة والأعمال الصالحة، وتعظيم الله تعالى خالق الإنسان والكون.
⟸ احترام قانون التنوع والتعدد
إن التنوّع والتّعدد قاعدة ورُكنٌ أساسيّ وطبيعيّ في الإنسان والحيوان والطبيعة. وانطلاقا من هذا المعطى، فإنه يتوجب احترام قانون التنوّع والتعدّد داخل المجتمعات الأوروبية المتنوعة والتشجيع على سُبل التعايش، حيث تتميز أوروبا – بما في ذلك مُسلموها – بالتنوّع والتعدّد. ويعمل خطاب “مجلس مسلمي أوروبا” على رفض الخطاب العنصري مهما كان مصدره، واعتبار التعدّد الثقافي والدّيني والعرقي عاملاً مهمّا لإثراء المجتمع. ويقتضي ذلك الانفتاح على المشارب الفكرية والفلسفية المتنوعة للشعوب والحضارات من باب “الحكمة ضالة المؤمن” لإثراء الفهم والتعارف والتقارب بين كافة الشعوب. كما يؤكد “مجلس مسلمي أوروبا” على التكامل بين الهوية والتنوع الثقافي: فالهويّة تتكامل مع التنوّع الثقافي وتزدهر، والهوية إضافة نوعية في أداء الإنسان لدوره الثقافي والحضاري، فلا تناقض ولا تصادم بين الهوية والتنوّع.
⟸ إرساء ثقافة التعايش المشترك والاحترام المتبادل والحوار الحضاري
انطلاقا من مبدأيْ الكرامة الإنسانية والتعدّد والتنوع، يُصبح من الضروري العمل على إرساء ثقافة التعايش المشترك والاحترام المتبادل والحوار الحضاري. فالحوار لا الصدام أساس العلاقة والتعامل بين الحضارات والثقافات والأديان. ويُعتبر الاهتمام بالثقافة والفنون والآداب والارتقاء بها وتوظيفها في خدمة المجتمع عوامل مساعدة على تجسير ثقافة التعايش وحسن التواصل. كما أن تعزيز الفكر النّقدي يساعد على قبول الاختلاف وتجسيد التنوع وتجنب النزاع والصراع.
⟸ تعزيز الشعور بالانتماء الوطني – الأوروبي والعمل بمقتضيات المواطنة
إن من أهم مُقتضيات المواطنة العمل ضمن نطاق دولة القانون والنظم واحترام السلطات القائمة. ونحن مسلمون أوروبيون منبتاً ومنشأً، وعلى هذه الأرضية يتحدّد انتماؤنا وتتحدد غاياتنا، ومن مقتضيات ذلك مشاركتنا واسهاماتنا المجتمعية والحرص على أن نكون عاملا إيجابيا مثرياً لمجتمعاتنا الأوروبية والعمل على رقيّها والذود عنها والمحافظة على استقرارها.
⟸ احترام مبادئ العلمانية والديمقراطية
إن العلمانية تقوم على حياد الدولة عن التدخل في الشأن الديني وعلى معاملة الأديان على قدم المساواة. ومُسلمو أوروبا مثل غيرهم من المواطنين مطالبون باحترام مقتضيات العلمانية. كما أنهم مطالبون بالعمل على تعزيز الممارسة الديمقراطية داخل مؤسساتهم، باعتبار الديمقراطية أفضل النّظم المعاصرة في إدارة الشأن العام.
⟸ عمارة الأرض
إن عمارة الأرض والاهتمام بالبيئة وتحقيق التنمية والتعاون فيما يُيسّر العيش للناس ويجلب لهم الأمن والرفاه أمرٌ يُعدّ من صميم رسالة المسلم في الحياة. ومن شروط عمارة الأرض التناغم بين الإنسان والطبيعة. إن الإنسان كيانٌ يقوم على أنظمة فرعية متفاعلة داخله، ولكن هذا الكيان ليس بمعزل عن المحيط البيئي والطبيعي الذي يعيش فيه. فهو مطالب بالتالي باحترام قوانين الطبيعة ونواميسها وعدم الإفساد في الارض.
خاتمة
إن استيعاب هذه المفاهيم وهذه القيم والمبادئ وحسن تنزيلها في الواقع والعمل على احتضان الأجيال الجديدة في إطارها وتكوينها على:
استقلال النفس والقلب، أي (حرية الضمير والعاطفة فلا ترتبط عاطفيا إلا بالمبادئ والقيم). واستقلال الفكر والعقل، أي (حرية العقل فلا ترتبط عقليا إلا بالبرهان بعيدا عن الخرافة والأوهام). واستقلال الجهد والعمل، أي (حرية العمل والإنتاج فلا يرتبط الجهد والعطاء إلا بالجودة والإتقان).
كما أن الارتقاء بهذه الأجيال في هذه المنازل حتى تكون عناصر نافعة، صالحة ومُصلحة، مساهمة في رقيّ مجتمعاتها وسلمها وسلامتها، كل هذا يُعدّ خدمة جليلة ومساهمة راقية للوجود المسلم في البلاد الأوروبية في محيطه ومجتمعه.